د طارق عبدالعليم يكتب: المدارس الحقلية للمزارعين: مختبرات المعرفة في مواجهة الآفات الزراعية

المعمل المركزي للمبيدات – مركز البحوث الزراعية -مصر

في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الزراعة الحديثة من تغيرات مناخية، وتفشي الآفات الزراعية، وإرتفاع تكاليف الإنتاج، برزت المدارس الحقلية للمزارعين (Farmer Field Schools – FFS) كأحد أنجح النماذج التدريبية الميدانية التي تربط بين العلم والممارسة، وبين المعرفة البحثية والخبرة المحلية.

هذه المدارس الحقلية لمكافحة الآفات الزراعية، لم تعد مجرد جلسات توعوية، بل تحولت إلى مختبرات حقلية مفتوحة تُمكّن المزارعين من اكتساب مهارات التحليل والملاحظة واتخاذ القرار السليم في إدارة المحاصيل والآفات بطرق علمية ومستدامة.

أولاً: فكرة المدارس الحقلية ونشأتها

بدأت فكرة المدارس الحقلية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي في إندونيسيا بدعم من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، كجزء من برنامج إدارة الآفات المتكاملة في محصول الأرز.

وقد حققت التجربة نجاحًا كبيرًا في تمكين المزارعين من تقليل استخدام المبيدات الكيميائية بنسبة تجاوزت 50%، مع زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المحصول. ومن هناك، انتشرت الفكرة في أكثر من 90 دولة حول العالم، لتصبح نموذجًا دوليًا في بناء قدرات المزارعين وتغيير سلوكهم الزراعي.

ثانياً: مفهوم المدرسة الحقلية ومكافحة الآفات الحقلية

المدرسة الحقلية هي منهج تعليمي تطبيقي يعتمد على التعلم بالممارسة وليس بالتلقين.

يقوم المزارعون خلال موسم الزراعة الكامل بتجارب عملية داخل الحقل، بإشراف فريق من المرشدين الزراعيين والخبراء، حيث يلاحظون نمو النبات، ويتابعون تطور الآفات، ويجرون تحليلاً بيئيًا أسبوعيًا (Agro-Ecosystem Analysis)، ومن ثم يتخذون قرارات إدارة الآفات بناءً على البيانات الميدانية.

ويُعد المزارع نفسه محور العملية التعليمية، فهو ليس متلقّيًا فقط، بل مشاركًا فاعلًا في اكتشاف الحلول وتبادل الخبرات مع أقرانه.

ثالثاً: أهداف المدارس الحقلية

تهدف المدارس الحقلية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف التكاملية، أهمها:

  1. رفع الوعي الزراعي لدى المزارعين بأسس الإدارة المتكاملة للآفات.
  2. الحد من الاستخدام العشوائي للمبيدات وتشجيع البدائل الحيوية والبيئية.
  3. تحسين مهارات الملاحظة والتحليل الميداني، وتمكين المزارع من اتخاذ القرار بنفسه.
  4. تعزيز العمل الجماعي وتبادل الخبرات بين المزارعين في المجتمع الريفي.
  5. تحقيق التنمية الريفية المستدامة من خلال الزراعة النظيفة وتحسين الدخل.

رابعاً: المنهجية العلمية للمدرسة الحقلية

تعمل المدرسة الحقلية وفق خطوات مدروسة ومنهجية علمية دقيقة، يمكن تلخيصها في المراحل التالية:

  1. اختيار الموقع والمحصول

يُختار موقع المدرسة في مزرعة نموذجية أو لدى أحد المزارعين الراغبين في التعلم، بحيث تمثل الظروف البيئية نفس ما يواجهه المزارعون في المنطقة.

كما يُختار المحصول الرئيسي الذي يهم المجتمع المحلي (مثل الأرز، الطماطم، القطن، أو الرمان).

  1. تحديد المشكلات المحلية

يُجرى استطلاع أولي لمعرفة الآفات المنتشرة والمشكلات الزراعية التي يعاني منها المزارعون، ليتم توجيه التدريب نحو حلها.

  1. تطبيق مبدأ التعلم بالممارسة

يُقسم الحقل إلى مناطق تجريبية — منها ما يُدار بالطريقة التقليدية، وأخرى وفق مبادئ الإدارة المتكاملة للآفات (IPM) — ليلاحظ المتدربون الفرق عمليًا بين الطريقتين.

  1. التحليل البيئي الزراعي الأسبوعي

يقوم المشاركون أسبوعيًا بمراقبة نمو النباتات، وتعداد الآفات والأعداء الحيوية، وتسجيل البيانات في جداول، ثم يجتمعون لتحليل النتائج واتخاذ القرار بشأن المكافحة أو عدمها.

  1. النقاش الجماعي والتقييم

يُشجع المزارعون على النقاش وتبادل الآراء واستخلاص الدروس المستفادة، ما يعزز روح الفريق ويعمق الفهم العلمي لديهم.

خامساً: المدارس الحقلية كأداة فعالة في مكافحة الآفات

تُعتبر المدارس الحقلية واحدة من الركائز الأساسية لتنفيذ برامج المكافحة المتكاملة للآفات (IPM)، إذ تُمكّن المزارع من:

  1. تمييز الآفات عن الأعداء الحيوية، وبالتالي تجنب المكافحة الخاطئة التي تضر بالنظام البيئي.
  2. تعلم التوقيت الأمثل للتدخل بالمبيدات فقط عند بلوغ الحد الاقتصادي الحرج.
  3. تجربة المبيدات الحيوية أو المستخلصات النباتية كبدائل أكثر أمانًا.
  4. رصد فعالية برامج المكافحة ومتابعة الأثر المتبقي للمبيدات.
  5. تعزيز المراقبة الحقلية المبكرة وتطبيق المكافحة الوقائية.

وقد أظهرت دراسات ميدانية في مصر، الفلبين، وكينيا أن المزارعين الذين شاركوا في المدارس الحقلية قللوا من استخدام المبيدات بنسبة تتراوح بين 40 إلى 70%، مع تحسن ملحوظ في إنتاجية وجودة المحاصيل.

سادساً: دور المدارس الحقلية في مصر

في مصر، لعبت لجنة مبيدات الآفات الزراعية وقطاع الإرشاد الزراعي دورًا محوريًا في تطبيق فكرة المدارس الحقلية ضمن إطار تنفيذ البرنامج القومي للإدارة المتكاملة للآفات.

فقد تم تنفيذ عشرات المدارس الحقلية في محافظات الوجه البحري والصعيد، استهدفت محاصيل رئيسية مثل القطن، والقمح، والطماطم، والرمان، والعنب.

من خلال هذه المدارس، تم تدريب آلاف المزارعين على مكافحة الآفات الزراعية:

  • التعرف على دورة حياة الآفات الزراعية.
  • اختيار المبيدات المسجلة فقط من قبل لجنة المبيدات.
  • اتباع ممارسات الرش الآمن وارتداء معدات الوقاية الشخصية.
  • الحفاظ على الأعداء الحيوية وتشجيع التوازن البيئي.
  • تطبيق معايير A.P. ومتطلبات التصدير الآمن.

هذه الجهود ساهمت بشكل مباشر في خفض معدلات الرفض التصديري للمنتجات الزراعية المصرية، خاصة في الأسواق الأوروبية، نتيجة تحسن الوعي بمتبقيات المبيدات.

سابعاً: الأثر الاجتماعي والاقتصادي

لم تقتصر فائدة المدارس الحقلية على الجانب الفني فقط، بل امتدت إلى بناء رأس مال اجتماعي قوي في الريف المصري والعربي.

فقد تحولت مجموعات المزارعين المشاركين إلى شبكات محلية للتنمية الزراعية، يساندون بعضهم البعض في تبادل المعلومات، وشراء المدخلات الزراعية بشكل جماعي، وحتى التسويق المشترك للمنتجات.

ومن الناحية الاقتصادية، ساهمت المدارس الحقلية في:

  • تقليل تكاليف المبيدات والأسمدة.
  • زيادة الأرباح الصافية للمزارع.
  • تحسين جودة المنتجات وقيمتها التسويقية.
  • تحقيق عائد مستدام دون الإضرار بالبيئة.

ثامناً: التحديات التي تواجه المدارس الحقلية

رغم النجاح الكبير، تواجه المدارس الحقلية عدة تحديات، منها:

  1. نقص التمويل والاستمرارية بعد انتهاء المشاريع الممولة دوليًا.
  2. قلة عدد المرشدين المدربين على منهجية التعلم بالمشاركة.
  3. ضعف الارتباط بالبحوث التطبيقية في بعض المناطق.
  4. تحديات التوسع الرقمي في ظل الحاجة لاستخدام أدوات تكنولوجية لتوسيع النطاق.
  5. محدودية مشاركة النساء والشباب في بعض البيئات الريفية.

ومع ذلك، فإن إدماج المدارس الحقلية في السياسات الزراعية الوطنية والبرامج الإرشادية الذكية يمكن أن يعالج معظم هذه التحديات.

تاسعاً: المستقبل الرقمي للمدارس الحقلية

مع التطور السريع في تكنولوجيا المعلومات، بدأ مفهوم المدارس الحقلية الذكية (Smart FFS) في الظهور، حيث تُستخدم تطبيقات الهاتف المحمول والطائرات بدون طيار وأجهزة الاستشعار لمتابعة الآفات والمناخ، وتحليل البيانات بشكل فوري.

هذه التقنيات تفتح آفاقًا جديدة لتوسيع نطاق التدريب وزيادة كفاءة الإرشاد الزراعي، خصوصًا في ظل التحول نحو الزراعة الذكية مناخيًا.

عاشراً: خاتمة

المدارس الحقلية ليست مجرد نشاط تدريبي، بل ثورة فكرية زراعية تعيد صياغة العلاقة بين المزارع والعلم.

فهي تُمكّن المزارع من أن يكون باحثًا في حقله، وشريكًا في القرار، وحارسًا للبيئة الزراعية.

لقد أثبتت التجربة أن الاستثمار في تعليم المزارعين وتمكينهم معرفيًا هو الطريق الأقصر نحو زراعة مستدامة، وغذاء آمن، وبيئة متوازنة.

وبينما تتجه الدول نحو تقليل الاعتماد على المبيدات الكيميائية وتعزيز البدائل الحيوية، تظل المدارس الحقلية حجر الأساس لبناء هذا التحول، فهي تزرع في المزارع عقلية جديدة ترى في المعرفة السلاح الأهم لمواجهة الآفات وتحقيق الاستدامة الزراعية.