د طارق عبدالعليم يكتب: الصحة الواحدة والمبيدات عندما تتقاطع صحة الإنسان والحيوان والبيئة في منظومة واحدة
باحث- المعمل المركزي للمبيدات – مركز البحوث الزراعية – مصر
في عالمٍ تتسارع فيه التغيرات البيئية وتزداد فيه التحديات الصحية العابرة للحدود، لم يعد ممكناً النظر إلى صحة الإنسان بمعزل عن صحة الحيوان أو البيئة. من هنا انبثق مفهوم “الصحة الواحدة” (One Health)، الذي تبنّته منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) والمنظمة العالمية لصحة الحيوان (WOAH)، ليشكل إطاراً تكاملياً يربط بين صحة الكائنات الحية والأنظمة البيئية في منظومة واحدة مترابطة.
وفي ظل الاحتفال باليوم العالمي للصحة الواحدة الذي يُوافق 3 نوفمبر من كل عام، يبرز دور المبيدات كأحد العناصر المحورية التي يمكن أن تُهدد هذا الترابط إن أسيء استخدامها، أو تُعززه إذا تم تنظيمها وتطبيقها ضمن مبادئ الإدارة المتكاملة والمستدامة.
🧩 أولاً: مفهوم “الصحة الواحدة” وأبعاده المتكاملة
يقوم مفهوم “الصحة الواحدة” على فكرة جوهرية مفادها أن صحة الإنسان والحيوان والنبات والبيئة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً.
فالأمراض لا تعترف بالحدود الجغرافية أو النوعية؛ إذ يمكن لمرض ينشأ في الحيوانات البرية أو المزرعية أن ينتقل إلى الإنسان عبر الغذاء أو المياه أو البيئة الملوثة، والعكس صحيح.
ولذلك، يتطلب الحفاظ على الصحة العامة تعاوناً متعدد القطاعات يشمل الأطباء البيطريين والبشريين، وخبراء البيئة والزراعة، والجهات الرقابية والتنظيمية.
إن هذا المفهوم أصبح ضرورة عالمية في مواجهة:
- الأوبئة الحيوانية المنشأ (مثل إنفلونزا الطيور وكوفيد-19)،
- مقاومة مضادات الميكروبات (AMR)،
- تلوث الغذاء والبيئة بالمبيدات والمواد الكيميائية،
- والتغير المناخي الذي يعيد تشكيل أنماط انتشار الآفات والأمراض.
⚗️ ثانياً: المبيدات في منظومة “الصحة الواحدة”
تُستخدم المبيدات لحماية المحاصيل الزراعية من الآفات، ما يسهم في تحقيق الأمن الغذائي وتقليل الفاقد. إلا أن الاستخدام غير الرشيد أو المفرط للمبيدات قد يؤدي إلى انعكاسات خطيرة على صحة الإنسان والحيوان والنظم البيئية، وهو ما يجعلها عنصراً محورياً في تطبيق مفهوم “الصحة الواحدة”.
- التأثير على صحة الإنسان
يتعرض الإنسان للمبيدات عبر طرق متعددة — مثل تناول الأغذية الملوثة بمتبقيات المبيدات، أو استنشاق الرذاذ أثناء الرش، أو التماس الجلدي للعاملين في الزراعة.
وقد ربطت الدراسات بين التعرض المزمن لبعض المبيدات وبين:
- اضطرابات الجهاز العصبي،
- أمراض الكبد والكلى،
- اضطرابات الغدد الصماء،
- وبعض أنواع السرطان.
ومن هنا تأتي أهمية الرقابة على متبقيات المبيدات في الغذاء، ووضع الحدود القصوى المسموح بها (MRLs) وفق التشريعات الدولية مثل تشريعات الاتحاد الأوروبي وCodex Alimentarius، لضمان أن تظل المتبقيات في مستويات آمنة لا تهدد صحة المستهلك.
- التأثير على صحة الحيوان
تتأثر الحيوانات المنزلية والبرية على حد سواء بالمبيدات، سواء من خلال تناول نباتات أو مياه ملوثة أو عبر سلاسل الغذاء.
فبعض المبيدات قد تتراكم في الأنسجة الدهنية أو اللبن أو البيض، ما يُسهم في انتقالها إلى الإنسان، ويُخلّ بتوازن الأنظمة الغذائية الحيوانية.
كما أظهرت أبحاث أن بعض المركبات مثل الكلوربيريفوس والنيونيكوتينويدات تؤثر سلباً على النحل والملقحات الأخرى، ما يقلل من إنتاجية المحاصيل ويهدد التنوع البيولوجي.
- التأثير على البيئة والنظم البيئية
تُعد البيئة الوسيط الذي يجمع بين الإنسان والحيوان والنبات، وهي الأكثر تأثراً بالمبيدات من حيث:
- تلوث المياه الجوفية والسطحية بمخلفات المبيدات،
- تدمير الكائنات غير المستهدفة مثل الأسماك والطيور،
- تراكم المركبات العضوية الثابتة (POPs) في السلسلة الغذائية،
- وتدهور خصوبة التربة والتنوع الميكروبي النافع.
هذه التأثيرات البيئية قد تُعيد تدوير الملوثات إلى الإنسان والحيوان، ما يجعل القضية دائرية الطابع وتُظهر الحاجة إلى تدخل من منظور الصحة الواحدة.
🧠 ثالثاً: من التحديات إلى الحلول – نحو إدارة متكاملة للمبيدات
إن ربط ملف المبيدات بإطار الصحة الواحدة يتطلب تحولاً مفاهيمياً من مجرد مكافحة الآفات إلى إدارة مستدامة للمخاطر تأخذ في الاعتبار صحة الإنسان والحيوان والبيئة معاً.
- تعزيز الحوكمة والتشريعات
ينبغي أن تُستند سياسات تسجيل وتداول المبيدات إلى تقييمات المخاطر الشاملة التي تراعي التأثيرات المتبادلة عبر الأوساط الثلاثة (الإنسان، الحيوان، البيئة).
وفي هذا السياق، تُعد لجنة مبيدات الآفات الزراعية المصرية نموذجاً تنظيمياً متميزاً في المنطقة العربية، إذ تطبق منهجية علمية في تسجيل المبيدات، وتعمل على تحديث القوائم المعتمدة وفق المرجعيات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي وEPA وFAO.
- تعزيز الرقابة والتتبع
تفعيل نظم الإنذار السريع مثل RASFF الأوروبي أو إنشاء نظم وطنية مشابهة يتيح الكشف المبكر عن التلوث الغذائي، وتبادل البيانات بين الجهات الصحية والزراعية والبيئية لضمان سرعة الاستجابة.
- تدريب الكوادر وتوعية المزارعين
يُعتبر بناء القدرات والتدريب العملي للعاملين في الزراعة والرقابة الصحية محوراً أساسياً في تحقيق “الصحة الواحدة”، من خلال:
- التوعية بمخاطر سوء استخدام المبيدات،
- تطبيق ممارسات الرش الآمن،
- اتباع برامج الإدارة المتكاملة للآفات (IPM)،
- والتخلص الآمن من العبوات الفارغة.
- دعم البدائل الآمنة والمبيدات الحيوية
يتماشى مفهوم المبيدات الحيوية (Biopesticides) مع فلسفة الصحة الواحدة، إذ توفر حلولاً صديقة للبيئة وغير سامة للكائنات غير المستهدفة.
كما أن تشجيع الزراعة العضوية واستخدام مستخلصات النباتات والمكافحة البيولوجية يسهم في خفض العبء الكيميائي وتحسين صحة النظم البيئية.
🌿 رابعاً: الصحة الواحدة كإطار لصياغة سياسات المبيدات
لكي تكون السياسات فعّالة في إطار الصحة الواحدة، يجب أن تقوم على الترابط والتكامل بين القطاعات، بحيث تشمل:
- البُعد الصحي: من خلال تقييم التأثيرات السمية ومراقبة بقايا المبيدات في الغذاء والماء.
- البُعد البيئي: عبر مراقبة تلوث التربة والمياه وحماية الكائنات النافعة.
- البُعد الزراعي: بتطبيق ممارسات الإدارة المتكاملة وتحديث قوائم المواد الفعالة الآمنة.
- البُعد الاقتصادي: من خلال الحفاظ على تنافسية الصادرات وضمان التوافق مع متطلبات الأسواق الدولية.
ولتحقيق ذلك، ينبغي أن تتبنى الدول منهجاً وطنياً موحداً يُعزّز البيانات المشتركة، ونظم الإنذار المبكر، وآليات اتخاذ القرار التشاركي بين الوزارات المعنية بالصحة والزراعة والبيئة.
🌎 خامساً: دعوة للتحرك — من المفهوم إلى التطبيق
إن “الصحة الواحدة” ليست شعاراً احتفالياً، بل هي منهج حياة يعكس وعياً علمياً وسياسياً عميقاً بترابط مكونات المنظومة الحيوية على كوكب الأرض.
وإدماج ملف المبيدات ضمن هذا الإطار هو خطوة استراتيجية لحماية الإنسان من الأمراض المرتبطة بالتلوث الكيميائي، والحفاظ على سلامة الحيوان والتنوع البيولوجي، وضمان إنتاج غذاء آمن ومستدام للأجيال القادمة.
فكل قطرة مبيد تُستخدم اليوم بطريقة غير مسؤولة قد تعني ضرراً بيئياً وصحياً غداً، والعكس صحيح؛ إذ يمكن لكل ممارسة رش آمنة وكل قرار تنظيمي رشيد أن يعزز منظومة الصحة الواحدة ويدعم أهداف التنمية المستدامة.
ختام
في اليوم العالمي للصحة الواحدة، تتجدد الدعوة إلى التعاون والتكامل بين العلماء وصانعي القرار والمزارعين والمستهلكين من أجل بناء مستقبل تُحترم فيه العلاقة المتوازنة بين الإنسان والطبيعة.
فالصحة الحقيقية لا تتحقق إلا عندما نتبنى نهجاً يربط بين ما نزرع وما نأكل وما نحمي — نهج “الصحة الواحدة”.
